مقالات

د.أحمد حفظي يكتب: رمضان في مصر.. روحانيات تملأ القلوب وطقوس لا تموت

 

رمضان في مصر ليس مجرد شهر صيام، بل حالة روحانية فريدة تمتزج فيها العبادة بالفرحة، والتقاليد بالروحانيات، حيث تصبح الشوارع مضاءة بوهج الإيمان قبل أن تضيئها فوانيس الزينة، وتمتلئ المساجد بالمصلين الذين يبحثون عن صفاء القلوب قبل أن يبحثوا عن طعام الإفطار.

فلا شيء يضاهي ذلك الشعور الذي ينتابك وأنت تسير في شوارع مصر قبل أذان المغرب، حيث تجد العيون تترقب لحظة الإفطار، لكن القلوب لا تزال متعلقة بالسماء، تدعو وتسبّح. في هذا الشهر، يتغير إيقاع الحياة، فتجد المتخاصمين يتصالحون، والمتهورين يهدأون، وكأن شهر الرحمة ينجح في تهذيب النفوس قبل أن يملأ الموائد.

لطالما رأيت في رمضان فرصة لتصفية النفس من ضغوط الحياة، ليس فقط بالصيام عن الطعام، ولكن بالصيام عن الغضب، عن الإسراف في الحديث، عن اللهاث وراء الدنيا. المصريون لديهم حسّ فريد يجعلهم يعيشون هذه الروحانيات بطرق قد لا تجدها في أي مكان آخر؛ فبين دعوات الجدّات على موائد الإفطار، وصلاة التراويح التي تمتلئ بها الشوارع قبل المساجد، وبين صوت المسحراتي الذي لا يزال يحتفظ بجماله رغم ظهور المنبّهات الحديثة، هناك سحر لا يمكن إنكاره… فالعادات لا تموت رغم تغير الزمن.

في كل مرة يأتي رمضان، أجد نفسي أراقب كيف تتغير حياة المصريين، ورغم اختلاف الأجيال، تبقى بعض العادات متجذرة لا يبددها الزمن. موائد الرحمن التي تمتد في الشوارع، والبيوت التي تُفتح للجيران والأصدقاء، ومظاهر البهجة التي تملأ القلوب قبل أن تملأ الساحات.

لكننا لا أنكر أن هناك اختلافًا بين رمضان الأمس ورمضان اليوم. التكنولوجيا حاولت أن تغير بعض الملامح، فالمسحراتي لم يعد يوقظ الجميع كما كان، والموائد لم تعد في كل شارع كما اعتدنا، ولكن الروح لا تزال موجودة، ربما أصبحت أكثر هدوءًا لكنها لم تختفِ.

ولكن هل لا يزال رمضان كما كان؟

كثيرون يسألون: “هل فقد رمضان نكهته؟” بالطبع لا، لكنه تغيّر. الزمن يفرض إيقاعه، لكن ما دام هناك قلوب ما زالت تخشع عند سماع القرآن، وأيادٍ تمتد لإطعام الفقراء، ووجوه تبتسم رغم صعوبة الحياة، فإن رمضان لا يزال هو رمضان. الروحانيات لا تُقاس بعدد الفوانيس في الشوارع، بل بعدد القلوب التي تقترب من الله، وهذا ما يجعلني أؤمن أن رمضان سيظل دائمًا ذلك الشهر الذي يعيد ضبط إيقاع أرواحنا، مهما تغير كل شيء من حولنا.

في النهاية، رمضان ليس في شكل الحياة، بل في جوهرها. فهل نحن مستعدون لنعيش روحه الحقيقية؟

 

كاتب المقال: رئيس لجنة الطاقة والبيئة والقوى العاملة بنموذج محاكاة مجلس الشيوخ 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى