د. خالد فواز يكتب: “غسل الأموال”.. خطر خفي يهدد الاقتصاد ويقوض الاستقرار المالي

 

في عالم المال، تتسلل الأموال غير المشروعة إلى داخل المنظومة الاقتصادية عبر طرق احتيالية معقدة، تُعرف بـ”غسل الأموال”—ظاهرة باتت تمثل تهديدًا حقيقيًا لاستقرار الدول واقتصاداتها. فما طبيعة هذه الظاهرة؟ وكيف يتم غسل الأموال؟ وما هو دور البنوك في ذلك؟ وهل يتضرر المواطن العادي من هذه العمليات؟

 

تعريف الجريمة الخفية

 

يُعرّف غسل الأموال بأنه عملية تهدف إلى إضفاء طابع الشرعية على الأموال الناتجة عن أنشطة غير قانونية مثل تجارة المخدرات والأسلحة والاتجار بالبشر والفساد، وذلك من خلال إيداعها في النظام المالي ودمجها ضمن أموال مشروعة، لتصبح “نظيفة” في ظاهرها.

 

جذور الظاهرة وتاريخها الأسود

 

تعود جذور غسل الأموال إلى عشرينيات القرن الماضي، في فترة الحظر الأمريكي على الكحول، حين ظهرت شخصيات إجرامية مثل آل كابوني، الذي جنى الملايين من السوق السوداء. غير أن التحدي الأكبر آنذاك كان يكمن في “تبييض” هذه الأموال، فظهرت حيل مختلفة لدمجها ضمن الاقتصاد المشروع، أبرزها تأسيس مشروعات ظاهرية وشراء معدات منزلية بأموال غير مشروعة.

 

وفي عام 1986، أصدرت الولايات المتحدة أول قانون لمكافحة غسل الأموال، استجابةً لتنامي الجريمة المنظمة، ولتجفيف منابع تمويلها، خاصة تلك العابرة للحدود.

 

كيف يُغسل المال؟

 

تتم عملية غسل الأموال عادة عبر ثلاث مراحل رئيسية:

 

1. الإيداع: حيث تُودع الأموال في حسابات مصرفية مختلفة على فترات زمنية مدروسة لتفادي الشبهات.

 

2. التمويه: يُعاد تدوير هذه الأموال من خلال عمليات شراء وبيع لعقارات أو أصول وهمية أو استثمارات، مما يخفي مصدرها الحقيقي.

 

3. الدمج: يتم دمج الأموال المغسولة في الاقتصاد الرسمي عبر مشروعات استثمارية تبدو شرعية، داخل الدولة أو خارجها.

 

وتُعد البنوك السويسرية وجزر كايمان من أكثر المؤسسات استقطابًا لهذه الأموال نظرًا لسرية الحسابات المصرفية فيها، ما يصعّب تعقب حركة الأموال المشبوهة.

 

فضائح عالمية وكوارث مصرفية

 

في 20 سبتمبر 2020، كشف تحقيق صحفي لموقع BuzzFeed عن تسريب مستندات مصرفية تُظهر تورط بنوك عالمية كبرى في تمرير نحو 2 تريليون دولار من الأموال غير المشروعة، في فضيحة هزت الثقة بالمصارف العالمية.

 

الآثار الكارثية على الدول والمواطنين

 

غسل الأموال لا يضر الدولة فحسب، بل ينعكس سلبًا على حياة المواطن العادي، فهو يؤدي إلى:

 

ارتفاع معدلات الجريمة والفساد نتيجة تمويل العصابات والتنظيمات الإجرامية.

 

تآكل الاقتصاد الوطني بسبب عدم خضوع هذه الأموال للضرائب.

 

التضخم وغلاء الأسعار بفعل تدفق أموال ضخمة غير منتجة.

 

تدهور العملة المحلية وزعزعة الثقة في البنوك.

 

ارتفاع البطالة نتيجة ضعف الاستثمارات الحقيقية، وانخفاض القدرة الشرائية.

 

مواجهة الظاهرة: تشريع ورقابة وتعاون دولي

 

للحد من آثار غسل الأموال، يجب أن تتحرك الدول وفق خطة محكمة تقوم على:

 

سن قوانين صارمة تفرض عقوبات مشددة بالسجن والغرامة على المتورطين.

 

تعزيز الرقابة المصرفية وربط الإيداعات بمصادر الدخل الحقيقية.

 

رفع كفاءة العاملين بالبنوك في اكتشاف الأنماط المشبوهة من التحويلات.

 

مراقبة القطاعات ذات المخاطر العالية مثل العقارات والكازينوهات.

 

تعزيز الشفافية في التعاملات المالية، وتقييد استخدام النقد الكبير.

 

تفعيل التعاون الدولي لتبادل المعلومات وملاحقة شبكات الجريمة المنظمة.

 

غسل الأموال ليس مجرد جريمة مالية، بل تهديد وجودي للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. ووعي الأفراد، إلى جانب التشريعات الفعالة والتعاون المؤسسي والدولي، يمثل حجر الأساس في تجفيف منابع هذه الجريمة العابرة للحدود.

 

Exit mobile version